فصل: شروط المتلاعنين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.اللعان:

قال اللّه تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ (7) وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (8) وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9)} في القاموس: الشهادة: الخبر القاطع... وأشهد بكذا أحلف. اهـ. وفي قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً} [المجادلة: 16] بعد قوله جلّ شأنه: إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ دليل على أنّ الشهادة ترد بمعنى اليمين، وقد أجرت العرب الشهادة: أفعال العلم واليقين مجرى اليمين وتلقتها بما يتلقى القسم، وأكدت بها الكلام كما يؤكد بالقسم.
وقد شاع في لسان الشرع استعمال الشهادة بمعنى الإخبار بحقّ للغير على الغير، وتسمّى أيضا بينة.
وقد ذكر مادة الشهادة في آيات اللعان خمس مرات: أما الأولى فالمراد بها البيّنة بلا خلاف {وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ} أي وليس لهم بينة أربعة رجال عدول يشهدون بما رموهن به من الزنى.
وأما الثانية فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ فأولى الأقوال بالصواب فيها أنّها بمعنى البينة أيضا، وأنّ المراد فبينته المشروعة في حقه أن يقول أربع مرات إلخ، ويكون الكلام على حد «ذكاة الجنين ذكاة أمه» أي الذكاة الشرعية التي تحلّ الجنين هي ذكاة أمه. فذكاة أمه ذكاة له، كذلك هنا، قول الزوج الكلمات الخمس بينة له على صدق ما يقول، وقائمة مقام أربعة رجال عدول يشهدون على صدقه.
وأما الثلاثة الباقية {أربع شهادات باللّه} {أن تشهد أربع شهادات باللّه} فهي محتملة لأن تكون بمعنى الإخبار عن علم، وبمعنى الحلف والقسم، لأنّ معنى {أربع شهادات باللّه} أن يقول أربع مرات: أشهد باللّه إلخ وقول القائل: أشهد باللّه على كذا يحتمل أن يكون خبرا مؤكدا بالشهادة، كما يؤكّد بالقسم، ويحتمل أن يكون قسما مؤكدا بلفظ الشهادة، والعلماء مختلفون في المراد هنا بكلمات اللعان في قول أحد المتلاعنين: أشهد باللّه إلخ، فمنهم من قال: هي شهادات غلبت عليها أحكام الشهادات، ومنهم من قال: هي أيمان غلبت فيها أحكام الأيمان، وسيأتي بيان ثمرة الخلاف في ذلك.
وظاهر قوله تعالى: {إِلَّا أَنْفُسُهُمْ} أنه استثناء متصل. وقيل: إن {إلا} بمعنى غير ظهر إعرابها على ما بعدها بطريق العارية، فإنّ إلا وغير يتعاوران الاستثناء والوصفية، فتكون غير للاستثناء حملا على إلا وصفة حملا على غير ومن العلماء من جعل الاستثناء هنا منقطعا لظهور أن الزوج ليس من البينة التي كان يصحّ أن يستشهدها لو وجدها. وأولى الأقوال في هذا الاستثناء أنه متصل، وأن فيه تغليب الشهداء حتى شملوا الزوج القاذف، والسر في هذا التغليب الإشارة من أول الأمر إلى اعتبار قوله، وعدم إلغائه، ليوافق ما آل إليه اللعان في آخر الأمر من اعتبار قوله في سقوط الحد عنه بكلماته وحدها.
واللعن: الطرد من رحمة اللّه والغضب: السخط، وهو أشد من اللعن، فلذلك أضيف الغضب إلى المرأة لما أنّ جريمتها وهي الزنى أشد من جريمة الرجل، وهي القذف.
والدرء: الدفع، ومنه {فَادَّارَأْتُمْ} [البقرة: 72]: تدافعتم. والعذاب: كل مؤلم، والمراد به هنا حدّ الزنى أو التعزير بالحبس ونحوه، على اختلاف الرأيين كما ستعلم.

.سبب نزول آيات اللعان:

ذكر العلماء في سبب نزول هذه الآيات روايات فأخرج البخاري وأبو داود والترمذي عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أنّ هلال بن أمية رضي اللّه عنه قذف امرأته عند النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بشريك بن سحماء فقال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم: «البينة أو حدّ في ظهرك» فقال: يا رسول اللّه! إذا رأى أحدنا على امرأته رجلا ينطلق يلتمس البينة، فجعل النبي صلّى اللّه عليه وسلّم يقول: «البينة أو حدّ في ظهرك» فقال: والذي بعثك بالحق إني لصادق، ولينزلن اللّه تعالى ما يبرئ ظهري من الحد، فنزل جبريل عليه الصلاة والسلام، وأنزل عليه.
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ حتى بلغ إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ فانصرف النبي صلّى اللّه عليه وسلّم، فأرسل إليهما، فجاء هلال فشهد، والنبي صلّى اللّه عليه وسلّم يقول: «اللّه يعلم أنّ أحدكما كاذب، فهل منكما تائب؟» ثم قامت فشهدت، فلما كانت عند الخامسة وقفوها وقالوا لها: إنّها موجبة. قال ابن عباس رضي اللّه عنهما فتلكأت ونكصت، وظننا أنها ترجع، ثم قالت: واللّه لا أفضح قومي سائر اليوم، فمضت، فقال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم: «أبصروها. فإن جاءت به أكحل العينين، سابغ الأليتين، خدلج الساقين، فهو لشريك بن سحماء» فجاءت به كذلك، فقال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم: «لولا ما مضى من كتاب اللّه تعالى لكان لي ولها شأن».
وقيل: إنها نزلت في عاصم بن عدي، وقيل: إنها نزلت في عويمر بن نصر العجلاني، وفي صحيح البخاري ما يشهد لهذا القول، بل قال السّهيلي: إنه هو الصحيح، ونسب غيره إلى الخطأ.
ونحن ندع الخلاف في سبب النزول جانبا، والذي يهمنا من ذلك أن جميع الروايات متفقة على ثلاثة أمور:
أولها: أن آيات اللعان نزلت بعد آية قذف المحصنات بتراخ، وأنها منفصلة عنها.
والثاني: أنهم كانوا قبل نزول آيات اللعان يفهمون من قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ} الآية أنّ حكم من رمى الأجنبية وحكم من رمى زوجته سواء.
والثالث: أنّ هذه الآية نزلت تخفيفا على الزوج، وبيانا للمخرج مما وقع فيه مضطرا.
ونريد أن نبيّن علاقة آيات اللعان بآية القذف، فقواعد أصول الحنفية تقضي بأنّ آيات اللعان ناسخة للعموم في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ} لتراخي نزولها عنها.
وعلى ذلك يكون ثبوت الحد على من قذف زوجته منسوخا إلى بدل بيّنته آيات اللعان، وليس في هذه الآيات حكم يتعلق بقاذف زوجته أكثر من أنه يلاعن.
وسائر الأئمة غير الحنفية يقولون: إن آيات اللعان جعلت قاذف زوجته إذا لم يأت بأربعة شهداء- مخيّرا بين أن يلاعن أو يقام عليه الحد، فتكون آيات اللعان مخصّصة لعموم قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ} ويكون نظم الآيتين هكذا: كلّ من قذف محصنة ولم يأت بأربعة شهداء. فموجب قذفه الحد لا غير، إلا من قذف زوجته، فموجب قذفه إياها الحد أو اللعان.
ولعلّك تقول: لما ذا كان حكم قاذف زوجته مخالفا لحكم قاذف الأجنبية، وما السرّ في أنه قد جاء هكذا مخففا؟
والجواب ببيان حكمة مشروعية اللعان، وذلك أنّه لا ضرر على الزوج في زنى الأجنبي، والأولى له ستره، وأما زنى زوجته فيلحق به العار وفساد النسب، فلا يمكنه الصبر عليه، ومن الصعب عليه جدا أن يجد البينة، فتكليفه إياها فيه من العسر والحرج ما لا يخفى.
وأيضا فإنّ الغالب أنّ الرجل لا يرمي زوجته بالزنى إلا عن حقيقة، إذ ليس له الغرض في هتك حرمته، وإفساد فراشه، ونسبة أهله إلى الفجور، بل ذلك أبغض إليه، وأكره شيء لديه، فكان رميه إياها بالقذف دليل صدقه، إلا أنّ الشارع أراد كمال شهادة الحال بذكر كلمات اللعان المؤكّدة بالأيمان، فجعلها- منضمة إلى قوة جانب الزوج- قائمة مقام الشهود في قذف الأجنبي.

.شروط المتلاعنين:

شرط الحنفية في الزوج الذي يصحّ لعانه أن يكون أهلا لأداء الشهادة على المسلم، وفي الزوجة أن تكون كذلك أهلا لأداء الشهادة على المسلم، وأن تكون ممن يحد قاذفها، فلا لعان بين رقيقين، ولا بين كافرين، ولا بين المختلفين دينا، ولا بين المختلفين حرية ورقّا، أما كون الزوج من أهل الشهادة فلقوله تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ} فإنّ الاستثناء متصل في ظاهره، والمعروف في الاستثناء المتصل أنّ يكون المستثنى من جنس المستثنى منه، فيكون الزوج شاهدا يعتبر فيه ما يعتبر في أهل الشهادة، وأيضا فكلمات اللعان من الزوج في ظاهرها شهادات مؤكدات بأيمان، فيجري على قائلها ما يجري على الشهود، وكذلك جعل اللّه كلمات الزوج الأربع بدلا من الشهود، وقائمة مقامهم عند عدمهم، فلا أقلّ من أن يشترط في قائلهن ما يشترط في أحد الشهود.
وأما كون الزوجة من أهل الشهادة فلأن لعانها معارضة للعانه، فكما اشترطنا في الزوج أن يكون أهلا لأداء الشهادة على المسلم، كذل يشترط في الزوجة أن تكون أهلا لأداء الشهادة على المسلم، حتى يكون في لعانها قوة المعارضة للعانه.
وأما كون الزوجة ممن يحد قاذفها فلأنّ اللعان كما علمت بدل عن الحد في قذف الأجنبية، فلا يكون لعان في قذف الزوجة إلا حيث يجب الحد على قاذفها لو كان أجنبيا.
ويشهد للحنفية في اشتراطهم هذه الشروط أيضا ما رواه ابن عبد البرّ في التمهيد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنّ النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «لا لعان بين مملوكين ولا كافرين».
وما رواه الدار قطني من حديثه أيضا عن أبيه عن جده مرفوعا «أربعة ليس بينهم لعان: ليس بين الحر والأمة لعان، ليس بين الحرة والعبد لعان، وليس بين المسلم واليهودية لعان، وليس بين المسلم والنصرانية لعان».
وما رواه عبد الرزاق في مصنفه عن ابن شهاب قال: من وصية النبي صلّى اللّه عليه وسلّم لعتّاب بن أسيد أن لا لعان بين أربع، فذكر معناه، وهذه الأحاديث الثلاثة وإن كان نقاد الحديث قد تكلموا في كل واحد منها، فإنّ الحديث الضعيف إذا تعددت طرقه يحتجّ به لما عرف في موضعه.
وهذا الذي ذهب إليه الحنفية قال به الأوزاعي والثوري وجماعة، وهو رواية عن أحمد رحمه اللّه.
وذهب مالك والشافعي وأحمد في رواية أخرى إلى أنّ اللعان يصحّ من كلّ زوجين، سواء أكانا مسلمين أم كافرين، عدلين أم فاسقين، محدودين في قذف أم غير محدودين، وهو قول سعيد بن المسيب والحسن وربيعة وسليمان بن يسار. وحجتهم في ذلك عموم قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ} قالوا: وقد سمّى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم اللعان يمينا، فإنّه لما علم أن امرأة هلال بن أمية جاءت بولدها شبيها بشريك بن سحماء قال فيها: «لولا الأيمان لكان لي ولها شأن» رواه أبو داود بإسناد لا بأس به. يريد صلّى اللّه عليه وسلّم بالأيمان ما سبق من لعانها. فقد سمّى كلمات اللعان أيمانا، فلا يشترط في المتلاعنين إلا ما يشترط في أهل الأيمان.
وقالوا أيضا: إنّ حاجة الزوج الذي تصحّ منه الشهادة إلى اللعان ونفي الولد كحاجة من تصحّ شهادته سواء، والأمر الذي نزل به مما يدعو إلى اللعان، كالذي ينزل بالعدل الحر، وليس من محاسن الشريعة أن ترفع ضرر أحد النوعين وتجعل له فرجا ومخرجا مما نزل به، وتدع النوع الآخر في الآصار والأغلال لا مخرج مما نزل به ولا فرج.
وأما الاستثناء في قوله تعالى: {إِلَّا أَنْفُسُهُمْ} فقد علمت ما فيه من الاحتمالات.
وكذلك علمت ما في حديث عمرو بن شعيب، فلم يبق إلا الكلام في ألفاظ اللعان: أهي شهادة أم يمين، فالحنفية وموافقوهم غلّبوا فيها جانب الشهادة، فشرطوا في المتلاعنين أهلية الشهادة.
والشافعية وموافقوهم غلّبوا فيها معنى اليمين، فلم يشترطوا في المتلاعنين إلا أن يكونا ممن تصح أيمانهم.
ظاهر قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ} الآية يقتضي أنّ الزوج إذا قذف امرأته بعد الطلاق أنه لا لعان بينهما، لأنها حينئذ ليست زوجة، وبهذا الظاهر قال عثمان البتي.
وقال أبو حنيفة والشافعي: إذا وقع القذف في عدّة طلاق رجعي جرى بينهما اللعان، لأنّ المطلقة طلاقا رجعيا في حكم الزوجة ما دامت في العدة. وقال مالك رضي اللّه عنه: إن كان هناك نسب يريد أن ينفيه، أو حمل يتبرأ منه لا عن. وإذا لم يكن هناك حمل يرجى، ولا نسب يخاف تعلقه لم يكن للعان فائدة، فلم يحكم به، وكان قذفا مطلقا داخلا تحت قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ} الآية.